كاملون في المحبة
«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا
وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ
مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،
لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ.
لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟
وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟
فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.
متى 5: 38- 48
ما هي الصورة التي ترتسم أمامنا أثناء قراءة كلمات المسيح السابقة الواردة في الموعظة على الجبل؟
هل المسيحية تدعو إلى الضعف والاستكانة؟ هل المسيح يدعو تابعيه وتلاميذه إلى الخنوع والسلبية والرضى بالقهر والذل والضرب والمهانة؟ وهل يُمكن تطبيق هذه الكلمات من قِبل إنسان القرن الحادي والعشرين؟
قبل محاولة فهم وتفسير الأعداد الكتابية السابقة، من الجدير بالأهمية أن نضع أقوال المسيح وأعماله جنياً إلى جنب. فالمسيح عاش مُحبــًا للأعداء ولكنه كان مقاومًا للشر في ذات الوقت، والمسيح لم يقل لا تقاوموا الشر بمفهوم الاستسلام للشر بل بمفهوم عدم الاسترسال فيه ، وعدم مقاومة الإنسان الشرير Do not resist an evil person.
فمحبة الأعداء لا تنفي مقاومة الشر، ليس بنفس طبيعته المُلتهبة العطشى للعنف والانتقام بل بطبيعة أخرى من فوق.
فبالتأمل في رد المسيح على الخادم الذي لطمه أثناء محاكمته ، ندرك أن المسيح لا يدعو إلى الضعف، كما هو وارد في يوحنا 18 : 23- 19 إذ قال:“فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ.أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ.
لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا.
وَلَمَّا قَالَ هذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفًا، قَائِلًا: «أَهكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟»أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟».
ما كان يقصده المسيح من محبة الأعداء هو التمييز بين الإنسان وأعماله، فوراء كل فعل شرير توجد قوى شريرة شوهت صورة الله في الإنسان الذي يرتكب الشرور، فدعوة المسيح تحمل في طياتها محبة الأعداء والمسيئين واللاعنين والمبغضين، ومقاومة الشر كقوة روحية خفية.
منهاج المسيح دوماً ليس في مقاومة الشر بالشر كمن يريد أن يُطفئ النار بالنار، حينئذِ يكون الشر قد انتصر، ولكن نار الشر تُطفأ بماء المحبة وحدها.
الإنسان العادي يبقى سلبياً في مواجهة الشر، والإنسان الشرير يقاوم الشر بالشر وربما يقاومه بشرِ أعنف وأعتى، وأما الإنسان الروحي الذي صارت له طبيعة جديدة واختبر الحب الإلهي المُحرر وصارت له شركة عذبة بالروح القدس ،هذه الشركة تفتح أعماقه يوماً فيومٍ على جوهر الله “الحب”، ليست بصورته المشوهة الضعيفة المستكينة الخانعة ، لكنها تختبر وتقدم الحب في ملء قوته، في قدرته على مواجهة الشر بكل قوة وحسم ، وفي اتساع أحشائه أيضًا لمحبة البشر وقبولهم كما يحبهم الله نفسه.
لا يجد الإنسان الروحي كلمات المسيح وصايا ثقيلة ، بل إن طبيعته الجديدة تعمل فيه بقوة الروح القدس، ليحب ويبارك ويضع حدودا للإساءة ، لا يقف عند حد حماية نفسه ولكنه يصلي ويفعل أقصى الخير الروحي لتحرير الشرير من شره لكي ينال حرية حقيقية في المسيح .
المسيح الجميل لا يضع على كاهلنا أحمالاً ثقيلة ولكنه يدعونا الى ترقيات روحية لنصير مُسحاء متجسدين وسط عالم شرير، ننشر الحب والسلام ونقاوم الشر بالخير ، نضع حدا للشرور ونكون كاملين يوماً فيومٍ في المحبة.
نورا