لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ
تناول سفر أيوب مشكلة الفكر الديني و خطورة ابتعاده عن فكر الله و قلبه استنادا إلى عقائد تبدو منطقية ثابتة وقابلة للتطبيق في الحكم على جميع الأمور.
في مُحاجة صوفر النعماني لأيوب الذي كان يتساءل بمرارة لماذا أذلّه الله بلا سبب أعتبر صوفر أن كلام أيوب هذزا، و أن الأمر واضح وضوح الشمس طبقــًا لمعتقده “الديني” الصحيح والمقبول: “لعنة الخراب و المرض وموت الأحباء هي مؤكدًا بسبب خطية المُصاب. فالله قاضٍ عادلٍ، لم يكن ليعمل هكذا مع البار فإن تاب الشخص رُفعت اللعنة و حلت البركة” و هذه كلماته التي أطلقها على أيوب في مصابه:
“إِنْ أَعْدَدْتَ أَنْتَ قَلْبَكَ، وَبَسَطْتَ إِلَيْهِ يَدَيْكَ. إِنْ أَبْعَدْتَ ٱلْإِثْمَ ٱلَّذِي فِي يَدِكَ، وَلَا يَسْكُنُ ٱلظُّلْمُ فِي خَيْمَتِكَ، حِينَئِذٍ تَرْفَعُ وَجْهَكَ بِلَا عَيْبٍ، وَتَكُونُ ثَابِتًا وَلَا تَخَافُ. لِأَنَّكَ تَنْسَى ٱلْمَشَقَّةَ. كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا. وَفَوْقَ ٱلظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ. ٱلظَّلَامُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحًا “.
أَيُّوبَ 11:13-17
والإبهار الحقيقي أن إعلان الله في هذا السفر القديم جدًا أظهر الجانب الخفي في شخص الله الذي حُجب بسبب التزام المتدينين بحرفية الناموس وفشلهم في اكتشاف قلب الله من داخل الناموس نفسه.
تحدى المسيح فكر المتدينين مرارًا و تكرارًا، ليعود بنا لمعرفة القدوس الحقيقية التي تتخطى حرفية الوصايا و منطقنا البشري وتصل لعُمق محبة الله.
نرى الفكر الديني الضيق في سؤال التلاميذ للسيد “وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلَادَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَا هَذَا أَخْطَأَ وَلَا أَبَوَاهُ، لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللهِ فِيهِ”.
يُوحَنَّا 9:1-3
ضيق الفكر جعل التلاميذ يفترضون أن الله حكم على الإنسان المولود أعمى بسبب أن أبويه أخطآ ، أو أن الله بمعرفته السابقة بخطئه حكم عليه قبل أن يُولد. لم يفكروا في أي احتمال آخر. لكن شكرًا لحكمة المسيح الأزلية التي تفوق كل عُرف بشري، فقد أخرج التلاميذ من حبس العُرف اليهودي المحصور في الفهم الضيق للناموس.
كما نرى في وقت صلب المسيح الذي شهد عنه جموع المتفرجين ورؤساء الكهنة أنه خلَّص كثيرين، تعَثَروا كليهما في نفس المنطق الديني:
“وَكَانَ ٱلْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ ٱلْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللهِ فَٱنْزِلْ عَنِ ٱلصَّلِيبِ!». وَكَذَلِكَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ أَيْضًا وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ ٱلْآنَ عَنِ ٱلصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ!”
مَتَّى 27:93-42
تلخص منطقهم في أن المسيح لابد أنه كان على خطأ وأنه غير بار بالرغم من صلاحه وعمله المعجزات مُخلصًا للآخرين حتى أن الله لم يستجب له و يخلَِصه من حُكم الرومان ورؤساء الكهنة بالموت صلبــًا.
حتى التلاميذ الذين تبعوا المسيح يوميا ثلاث سنوات ورأوا قوات الدهر الآتي صُدموا في حدث الصلب وإن لم يشكَوا في بر المسيح.
والآن في العصر الحديث في الكنيسة نرى المنطق الديني مُسيطرًا أيضا بطريقة تبدو معكوسة. فالآلاف من المسيحيين يعثرون في المسيح لأنهم لا يرون مايتوقعونه من المعجزات مطابقة لما عمله المسيح و تلاميذه في القرن الأول بشهادة الكتب. فبعض المعلمين يرد خوفا على الإيمان مُنفيا وجود المعجزات كلية زاعمــًا انتهائها بتثبيت الكلمة المقدسة ، وآخرون ينسبون نقص المعجزات لضعف الكنيسة و قلة صلاتها ويتوقعون انهمار المعجزات إذا صلت الكنيسة بقوة حتى يرى غير المؤمنين ويؤمنون. وهنا أعتقد أننا جميعــًا نحاول أن نفرض نظرياتنا على الله ليعمل بمنطقنا مانعــًا للمعجزات أم مُغدقــًا بها بدون حساب.
في المسيح نتعلم أن نخضع لأبي الأنوار ولا نُقنن له ما ينبغي أن يعمل أو نبرر له ما عمل. فليست قوة الله في المعجزات ، و ليست قلتها تعني ضعف الكنيسة وعدم رضاه.
لنتمسك فقط أن يحيا المسيح فينا فنتشبه به ، ولتكن مشيئته بمعجزات أو بدون، بشفاء أو من غير شفاء، بحياة أم بموت.
نادر أسعد
سبتمبر ٢٠٢٣